إعادة تموضع السلطة في مناطق السيطرة المسلحة: قراءة نقدية لتداعيات محاولة قوات الدعم السريع إقامة “حكومة”
في العالم المعاصر، حيث تسود الأطر القانونية الدولية وحقوق الإنسان كركائز أساسية للنظام الدولي، تبرز محاولات قوات الدعم السريع في السودان كظاهرة تتحدى هذه الأسس الجوهرية. ليس فقط من خلال محاولتها إقامة “حكومة” في المناطق التي تسيطر عليها، ولكن أيضًا عبر تحديها للمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، سواء كانت تلك المبادئ تتعلق بالسيادة، أم الشرعية السياسية، أم الأهلية القانونية.
إن محاولة تأسيس سلطة سياسية تُمثِّل انحرافًا عن الإطار القانوني الذي يحدد كيفية تشكيل السلطة الحاكمة في أي دولة هو في حد ذاته تجاوزٌ خطير للمعايير الدولية. وليس أدل على ذلك من أن هذه المحاولة، التي تعتمد أساسًا على القوة المسلحة والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، تتعارض مع المبادئ الأساسية التي قامت عليها الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.
إن محاولات قوات الدعم السريع تسعى إلى تشكيل حكومة تحت سيطرتها دون أن تستوفي أي من المتطلبات القانونية أو الأخلاقية التي تؤهلها لهذا الدور، مما يُهدد بتفكيك النظام الإقليمي والدولي في نفس الوقت. فهذه المحاولات ليست مجرد تجاوز لحقوق الشعب السوداني، بل هي تهديد مباشر للشرعية الدولية والنظام العالمي القائم على العدالة وحقوق الإنسان.
غِياب الأهلية السياسية: القوة كبديل للشرعية
لتكوين السلطة السياسية وفقًا للقانون الدولي، لا تكفي القدرة على فرض السيطرة الميدانية. فحسب المعايير الدولية، يتطلب الأمر توافر مجموعة من الشروط التي تشمل أولًا استيفاء الأهلية السياسية لهذه السلطة، وهو ما يرتبط بشكل مباشر بالقدرة على الحفاظ على الأمن والاستقرار، وضمان احترام حقوق الإنسان وحريات الأفراد.
فوفقًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، فإن الأهلية السياسية لا تقتصر على قوة السيطرة، بل تشمل أيضًا احترام وحماية حقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية. وبالتالي، تُصبح محاولات قوات الدعم السريع لإقامة حكومة في المناطق التي تسيطر عليها محل شكوك قانونية وأخلاقية بالغة. فهي ليست مجرد محاولة لاكتساب السلطة، بل هي محاولة لتجاوز النظام الدولي بكامله، الذي يستند إلى العدالة والمشروعية الدستورية.
ويظهر في هذا السياق أن قوات الدعم السريع، من خلال انتهاكاتها الواسعة لحقوق الإنسان، لا تُظهر أي احترام للأعراف الدولية أو القوانين الإنسانية. وتوثق تقارير الأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش سلسلة طويلة من الانتهاكات المرتكبة على يد هذه القوات، من قتل جماعي وتشريد واغتصاب، كلها تُسقط عنها أي شرعية أو أهلية لتولي السلطة السياسية.
السيادة المستحقة: الفجوة بين القوة والقانون
إن السيادة في المفهوم الدولي المعاصر ليست مجرد قدرة على السيطرة الفعلية على الأرض، بل هي ممارسة مشروعة للسلطة وفقًا لمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان. وقد أشار مبدأ “السيادة المستحقة”، الذي تطور في سياق قرارات المحكمة الجنائية الدولية، إلى أن ممارسة السلطة يجب أن تكون مشروعة، وأن الشرعية لا تُمنح للكيانات التي تنتهك القوانين الإنسانية وتضر بالمدنيين.
قوات الدعم السريع، التي استخدمت العنف المفرط ضد المدنيين، بما في ذلك القتل الجماعي والتطهير العرقي، وتقاعست عن حماية المدنيين في سياقات النزاع، تفتقر بشكل أساسي للأهلية الأخلاقية أو القانونية لتولي أي سلطة. إن تصرفات هذه القوات، التي تضمنت أيضًا استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب، تمثل خرقًا صارخًا للمبادئ الإنسانية الأساسية، بما يتناقض بشكل كامل مع مفهوم السيادة المستحقة في القانون الدولي.
في هذا الإطار، يتجلى أن هذه القوات تُمثل تهديدًا ليس فقط للنظام الإقليمي في السودان، بل أيضًا للنظام الدولي برمته، ما يقتضي تدخل المجتمع الدولي بشكل جاد وواضح لمنعها من تحقيق أي أهداف سياسية قد تشكل سابقة خطيرة في العالم المعاصر.
التداعيات الإقليمية: تجاوز المبادئ القانونية الإقليمية
على المستوى الإقليمي، تُعد محاولة قوات الدعم السريع فرض حكومة تحت سيطرتها انتهاكًا واضحًا للمبادئ التي أقام عليها الاتحاد الأفريقي ميثاقه التأسيسي. وتنص المادة 4(f) من هذا الميثاق على أن الاتحاد الأفريقي يرفض أي تغيير حكومي غير دستوري، ويُشدد على ضرورة احترام إرادة الشعوب. ولأن قوات الدعم السريع لم تستمد شرعيتها من أي عملية ديمقراطية أو دستورية، فإن محاولتها للسيطرة على السودان وفرض حكومتها تُمثل خرقًا للقرارات الأممية والإقليمية التي تؤكد على ضرورة التزام الحكومات بالشرعية الشعبية.
إن هذه المحاولات لا تُهدد النظام الإقليمي فقط، بل تساهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، حيث يُسمح للكيانات المسلحة التي تقوم على القوة بأن تفرض سلطتها دون مواجهة عواقب قانونية، مما يُعد خرقًا للمبادئ الأساسية التي تحدد كيف يجب أن تُدار الدول في الإطار القانوني الدولي.
الشرعية السياسية: الأهلية القانونية كأساس للشرعية
الشرعية السياسية، في الإطار الدولي المعاصر، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالامتثال لمبادئ القانون الدولي. وقد أكدت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بشأن قضية استقلال كوسوفو (2010) أن الشرعية لا تُمنح إلا للأطراف التي تلتزم بالقوانين الدولية وتحترم حقوق الإنسان. وعليه، لا يمكن لمنظمة أو قوة مسلحة تتورط في جرائم ضد الإنسانية وتقوم على منطق القوة أن تُعتبر مشروعة أو مؤهلة للشرعية الدولية.
علاوة على ذلك، فإن هذه القوات تمثل انتهاكًا سافرًا لقرارات مجلس الأمن الدولي، مثل القرار 1591 (2005)، الذي فرض عقوبات على الكيانات التي تهدد استقرار السودان. ومن ثم فإن محاولتها لإنشاء حكومة تحت سلطتها هي خرق مستمر للقوانين الدولية وتزيد من تعميق الأزمة السودانية بدلاً من حلها.
الجريمة المزدوجة: التأثيرات القانونية والأخلاقية على المجتمع الدولي
من زاوية قانونية، فإن محاولات قوات الدعم السريع لإنشاء حكومة تحت سيطرتها تشكل جريمة مزدوجة بحق الشعب السوداني والنظام القانوني الدولي على حد سواء. فهي تُعرض الشعب السوداني للمزيد من القمع والعنف، وتعزز عسكرة الدولة السودانية، وتطيل أمد الصراع الدموي الذي مزق البلاد لسنوات.
وفي نفس الوقت، فإن هذا النوع من المحاولات يعكس تواطؤًا في الجريمة على الصعيد الدولي، حيث يُعتبر دعم هذه القوات أو الاعتراف بها بمثابة خرق للقانون الدولي، وهو ما يهدد بشكل مباشر المبادئ الأساسية للعدالة الدولية. فمن خلال دعم قوات تشارك في جرائم ضد الإنسانية، يكون المجتمع الدولي بمثابة شريك في جريمة تُعرض مئات الآلاف من المدنيين للخطر.
التداعيات الدولية: تأصيل ثقافة الإفلات من العقاب
إن أي اعتراف دولي أو إقليمي بحكومة تحت سيطرة قوات الدعم السريع يُعد بمثابة سابقة خطيرة تُعمق أزمة السودان وتُجسد ثقافة الإفلات من العقاب. فالتعامل مع هذه القوات كطرف سياسي شرعي سيشكل نموذجًا يحتذى به من قبل قوى مسلحة أخرى في مناطق مختلفة من العالم، ويُعيد تسويق منطق القوة كوسيلة مشروعة لتحقيق أهداف سياسية.
إن العالم اليوم أمام اختبار قانوني وأخلاقي بالغ الأهمية. فإذا تم الاعتراف بأي نوع من الحكومة التي تسعى قوات الدعم السريع إلى فرضها، فإن ذلك سيفتح الباب أمام المزيد من الانتهاكات الحقوقية والصراعات المسلحة، ويُقوض النظام القانوني الذي يقوم على المبادئ الأساسية للعدالة الإنسانية.
دعوة للمجتمع الدولي: مسؤولية قانونية وأخلاقية
يتحمل المجتمع الدولي اليوم مسؤولية كبيرة في التصدي لمثل هذه المحاولات التي تسعى لإعادة ترسيخ مفاهيم قديمة قائمة على منطق القوة العسكرية. يجب أن يتم التصدي لهذه المحاولات بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك العزلة السياسية والضغط الدبلوماسي، من أجل الحفاظ على القيم الأساسية للعدالة الدولية وحماية حقوق الإنسان في السودان وفي المنطقة برمتها
Share this content:
إرسال التعليق